مـــقـــالات

الأطر المرجعية لموضوعة الجبل
حبيب مونسي


تقديم:
لقد اخترنا "موضوعة الجبل" في شعر "مفدي زكرياء" الثوري، ونحن ندرك ما تثيره هذه الموضوعة في نفس المتلقي ابتداء إذا ما قرنت بالثورة الجزائرية التحريرية. ولكننا نحاول قبل رصد السيمات الجمالية فيها، الكشف عن "المعرفة المكانية" التي تحبل بها الموضوعة في الذهن العربي الإسلامي، حتى تطلّ علينا بثقلها التاريخي والثقافي وقد اغتنت بكل الإيحاءات التي يتلبّسها الشعر عند الإشارة والرمز.. وكل شاعر يستند -في هذا- إلى الضمير الجمعي الذي شكّله الدين، والثقافة، والتاريخ المشترك.
1- الإطار الخرافي/الأسطوري:
الجبل.. مكان للضياع والفقد.. الجبل.. ارتفاع وحاجز ونهاية..
لقد عمدت القصة الخرافية، والقصة الشعبية إلى استعمال "الجبل" لواحد من هذه المعاني، بعد إحاطته بهالة من الضبابية وعدم التحديد. تبث فيه الروائح والأصوات، من همهمة وهمس وهدير.. وكل لغط غامض وغريب. وهي في سعيها ذاك تراعي – ابتداء- عاملا نفسيا مركوزا في المتلقي الذي تمتلئ نفسه فرقا مما يسمع، ومما يرتسم على وجه "الحاكي " من تعابير تهوّل الوصف، وتنفخ فيه الأصوات، وتبث فيه الحركات.
فإذا كان "الضياع" مقصدا للسارد، كان الجبل وعرا، متشابك الأدغال، تتعثر دروبه هبوطا وصعودا، تعمرها أصوات بعيدة متوعدة، وحشرجات قريبة مخيفة. وكأن كل خطوة فيه مزلق من مزالق الهلاك. لأن مثل هذا الوصف يكثّف الإحساس بالضياع والفقد، وغالبا ما يكون ليلا.
أما "الارتفاع" و"الحاجز" و"النهاية" و"المنعة" فمعايير يدرجها الحاكي نهارا، لأنها معايير بصرية، يدركها المتلقي من خلال الوصف المبالغ فيه، والذي يجعلها تسد وجه السماء، وترفتع لتغيب خلف الغيوم. فكل شيء فيها ضخم كبير، تمتلئ النفس منه رهبة. فهي أوصاف تدرك عن بعد، خلاف جبل الضياع الذي يدرك عن قرب. وفي كلا الموقفين استنادٌ إلى العامل النفسي التخييلي الذي يستعيد ترتيب الصور التي يبثها الحاكي، ويضخمها بدوره حتى تبلغ أبعادا خيالية. ولا يكون معنى "النهاية" حقيقة عينية إلاّ إذا أدرك عن مبعُدة . فالمسافة هي التي تحدد طول الامتداد، وعلو الارتفاع.
لقد استعملت الخرافة هذا النمط من الوصف، وتأرجحت بين الطرفين: البعد والقرب، واستطاعت أن تبرز المعاني التي قصدتها من وراء إغراق المتلقي داخل عتمة الجبل، أو من وراء شده مشدوها عن بعد إلى ضخامته. فإذا استعرضنا الأوصاف التي ملأت أقاصيص "ألف ليلة وليلة" ألفينا هذا النمط من المكان:».. الملعون، أو المسحور، أو الخرافي، ليس عجيبا خارقا فحسب، إنما كان شريرا. لم تكن سفينة تمر بالقرب منه إلاّ وكان يصيبها من شرّه المستطير، فتتمزق أجزاؤها، وتتساقط ألواحها، وتتطاير مساميرها نحو الجبل الملعون. وما ذاك إلاّ بحكم الجاذبية الشديدة التي كانت العفاريت العاتية جعلتها فيه لتخويف الإنس.«( ) وكأنه مكان للضياع والفقد والموت والتلاشي، حين تتحول المراكب على جنباته إلى ألواح عائمة وقد تفككت دُسُرها.. وتزداد غرابة المكان قوة حين تحل به الأرواح الشريرة من جن وعفاريت، وهي تتلذذ بهلاك البحارة. وهو مكان لا يلاقونه مصادفة في طرق المغامرة، وإنما يساقون إليه قسرا حين تندفع بهم الأمواج نحوه بشدة هائلة.
لقد أدركت القصة الخرافية ما للمكان من سحر، فراحت تصف القصور والبحار والبساتين، والصحارى، والجبال. بل أضحى بعضها ذو شهرة يعلمها الخاص والعام، تجري على الألسن دلالة على الاستحالة والاستغراب. وذلك شأن "جبل قاف" وهو الذي : »يذكر رمزا للبعد الهائل من جهة، والاستحالة عليه من جهة أخراة. «( ) ويذهب "عبد الملك مرتاض" إلى أن جبل "قاف" يتردد كثيرا في أحاديث الأولياء والصالحين ورجال التصوف.( ) وقد تؤول شهرة هذا الجبل إلى التحدي الذي يقترن بشرط تجاوز هذا الأفق "ولو في جبل قاف" "وراء جبل قاف" وكأنه علامة تقع على تخوم الأرض وحدودها. فكل تجاوز له إنما هو من قبيل خوارق الجن والعفاريت.
وربما عملت دلالة "الحد" "LIMITE" و"النهاية" "FIN" في عدم وجود أوصاف لهذا الجبل يتداولها القص الشعبي، وإنما الجبل -هنا- حد ونهاية فقط . ودلالته على البعد المفرط أو الاستحالة البعيدة. لذلك تجاهلت الخرافة وصفه، وكأنه حدّ لم يصل إليه أحد من الإنس ليخبر عنه. ونستطيع أن نعتقد أن وصف الجبل عن قرب في- القصص الخرافي – وتتبع مسالكه وشعابه، وأدغاله ووحشته، إنما هو في القص وسيلة للتعبير عن الضياع والهلكة. وما أساليب التهويل في القص والوصف إلاّ إمعان في بث الخـوف والفزع في نفس المتلقي، حين يستيقن ضياع بطل القصة وهلاكه الوشيك.. وكلما كان التهويل أخّاذا حيا مسكونا بروح شريرة لا يسلم منها أحد.
كما أن وصف الجبل عن بعد، لم يكن إلاّ للتعبير عن المنعة والحد والنهاية. وفي هذه الحالة يتعمد القص أسلوب التضخيم – في مقابل التهويل- حتى يغدو الجبل نهاية حقا للوجود المكاني. وقد استطاعت الخرافة أن توهم المتلقي أنها فعلا قد أقامت حدودا للمعمورة من خلال هذه السلاسل الممتدة من الجبال.
لم تكن الخرافة قصصا تروى أمام جموع مشدوهة، ترتعد فرائصها من الخوف، أمام نار متأججة مساء، كما يتبادر للأذهان أول وهلة. وإنما كانت أكثر من ذلك، فهي مصدر المعرفة البدائية، لأنها في جوهرها جماع: »الأفكار والممارسات و العادات التي لا تستند إلى تبرير علمي (ولكن) الذهنية الخرافية هي التي تسيطر على الفرد و الجماعة، بحيث يكون للخرافة فيها مكان بارز، سواء في نقل المعلومات وتمثيلها، وفي تفسير الأحداث وتعليها. «( ) وذلك حين يشيع جو من الأيمان واليقين في المرويات التي تجيب عن الأسئلة المكبوتة في نفوس الجماعة. فالخرافة : » مجازا علم ما قبل التاريخ، أو هي الإرهاصات الأولى لتفسير الوجود وعقلنة أحداثه. «( ) وقد عمدت العقلنة الخرافية إلى تسمية المكان الخرافي "جبل قاف" "واق واق" وحددت مواقعه "شمال" و"جنوبا" وكأنها تحاول أن تعطيه ما للمكان الجغرافي من وجود و حقيقة، بعدما استخدمته لغايات "فنية" أخرى.
2- الإطار الديني:
يتعامل القرآن الكريم مع المكان – تعامله مع كل شيء- على وجه الحقيقة، فلا مجال فيه لما هو متخيل، بيد أن المكان القرآني خلاف غيره، يتمتع بجملة من الخصائص التي تكسبه سمة مميزة. فليس القرآن الكريم كتاب جغرافيا، وإن كثر فيه الحديث عن الأقوام البائدة وبعض أماكنها ك"الأحقاف" و"الحجر" و"مصر" و"سبأ" و"مدين" و"بابل", "مكة" و"المدينة".. وهو ذكر يرد لتلاحمه مع الأحداث وارتباطه بها. وكأن في تحديده بيان لأهمية المكان في ذلك الموقف بالذات. حتى تكتمل الغاية وراء إيراد الخبر، وتفصيله. فقد عرض الله  في قصة "يوسف"  مكانا واحدا "معلوما" "مصر" وأبهم الأماكن الأخرى لقلة أهميتها بالنسبة للحدث عامة، وبالنسبة للغاية التربوية التي يرومها. ولم يحتفل القرآن الكريم ب"المكان" عندما يتجاوزه الحدث ، وترفع عنه أهميته، فلا يكون في ذكره غاية إيمانية تتحدد ببيانه. وقد وردت الأخبار عن "قرى" و"أقوام" يأتي ذكرها معلقا في الزمان والمكان، لتقدم هدفا تربويا أو إيمانيا، ثم يتحول عنها القرآن الكريم إلى أغراض أخرى.
وليس القرآن كتاب قصص، حتى يفيض في وصف المكان، كما هو الشأن مع أمكنة القص المعهودة. بل إن شكل القصة في القرآن الكريم يختلف عما هو جار في أعراف الأدب، مادامت القصة -عنده- حاملا تربويا تسعى إلى تثبيت الإيمان، وإيراد العبرة، والإخبار بقضاء الله  . فهي "حامل" "SUPPORT" لا يتوقف اهتمام القارئ عنده، بل يتجاوزه إلى المحمول فيه، حتى يكتمل هدف القص.
ولا يحمل المكان القرآني سيمات المكان الفني والأدبي، بل يمتاز بالاقتصاد الشديد، ولا يكون إلاّ بالقدر الذي يتطلبه الحدث و يقتضيه الهدف التربوي. وقد تكشف الدراسات الجمالية المتخصصة عن سيمات أخرى لم نلمحها في عجالتنا هذه. تكون عونا للأدباء في التعامل مع المكان تحت توجيه قرآني معجز.
لقد ترددت "موضوعة الجبل" ( جبل+ الجبال) تسعة وثلاثين مرة في القرآن الكريم ( ). وجاء ذكرها في مواطن مختلفة، لتلبي دلالات معينة في سياق مخصوص. وقد كان استعمالها على وجه الحقيقة- حقيقة اللفظ لما وضع له- ولم تنصرف إلى المجاز أبدا، بل ظلت دالة على الجبل المعروف عند العامة من الناس. ولا يسعى القرآن الكريم - في هذا- إلى تجاوز تواضع اللغة إلى معنى من المعاني ، بل جاءت الإشارة إلى المعاني من خلال السياق وحده، دون أن تنزاح لفظة الجبل إلى مجاز ما. نحاول استعراضها باختصار:
أ-النكرة والمعرفة:
في الغالب أن ينشأ عن استعمال "النكرة" إبهام في تحديد الاسم، وكأن المستعمل لا يريد أن يرتبط باسم معين ، بل يريد أن يترك الأمر على انفتاحه قابلا لكل اختيار. وقد أمر الله  إبراهيم  أن يجعل بعضا من الطير على رأس جبل ..أيّا كان الجبل قريبا كان أو بعيدا. لأن الغرض هنا هو تحقق قدرة الله  على بعث الحياة فيها وقد اختلط اللحم والدم و العظم. فأبهم المكان، ولم يحدده تاركا ذلك لإبراهيم . كذلك الأمر مع ابن نوح  حين قال رادا على نداء أبيه :  قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. ( هود. 43.). وربما كان استخفاف الابن بأبيه كما استخف به قومه باعثا على هذا اللون من الرد ومن ثم تنكير الجبل، حتى ولو لم يكن الجبل حاضرا بين يديه.. إنه جبل يعصمه من الماء.
ولا يكون استعمال المعرّف إلاّ لمعلوم من المكان . وقد استعمله الله  مرتين بصيغة المفرد في سورة "الأعراف" حينما سأل موسى  ربه الرؤية. وكانت رحمة الله  أن جعله يجرب معاينة تجلي الله  لمن هو أشدّ منه قوة، وأمتن صلابة، وأوسع جثة. فكان الجبـل:  ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربّه قال ربي أرني أنظر إليك، قال لن تراني، ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربّه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين. (الأعراف. 143.)
ب-الحياة والإحساس:
شاء الفكر الغربي أن يقسم الموجودات إلى حية وجامدة لا حياة فيها. ومنه كانت علوم الحياة وعلوم الطبيعة، وكأن هذه الأخيرة مواد خالية من كل حرارة، وإنما جعلت لتكون مواد وحسب. إلاّ أن الفكر الإسلامي لا يتصورها كذلك. فهي تتمتع بحياة خاصة، لا نفقهها نحن، وتتحدث بلسان لا نعيه، وهي في مناجاة مستمرة مع خالقها بله التسبيح والتحميد .تنفعل لأوامره نواهيه ، تفرح وتحزن وتخاف. وقد نعجب اليوم أن مثل هذا الفهم لم يعمر حياتنا ، حتى نرى الحجر والشجر أحياء تعيش و تشعر وتألم .!
لقد حمل إلينا حديث رسول الله  هذه الحقيقة، عندما قالت الجبال: ( ربّ ااذن لي أن أخرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك..) وكأنها تنقم عليه عدم الطاعة وشكر النعمة. فإذا هو أطاع الله  كان وإياها على سنة واحدة، تعطيه مما سخرها له الله  أضعافا مضاعفة. وقد شهدنا كيف ذهبت جلاميد الجبل هباء عند رؤية الله ، ولم ندر كم كان مقدار التجلي، ولا مدته. بل قد يكون خطفا من البصر، أعقبه انهيار كلي للجبل. وكما دكّه التجلي، تصدّعه الخشية حين سماع الذكر. قال تعالى:  لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.  (الحشر21). ومن علمها بعظمة الله وجلاله، ترفض الجبال حمل الأمانة التي عرضت عليها قبل أن تعرض على الإنسان : إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا. (الأحزاب72). إنها كائنات "عاقلة " تخشى تبعات الأمانة وتشفق منها لمعرفتها حقّ الله ، تمتلك قلبا حيا نابضا بذكر الله وخشيته.
ج- زوال العالم:
إذا تضعضع الثابت واهتزت أركانه، وتلاشت صلابته، فلا بقاء لمن هو أدنى منه متانة وأقل كثافة  فإذا الجبال سيّرت.. و وبسّت بسّا فإن الأرض قد فقدت أوتادها ومراسيها، وأضحت رجراجة لا يثبت على ظهرها شيء قائم أبدا، واضطربت هنا وهناك، وتدافعت كتلتها، فقد حلّت نهاية العالم وأزفت قيامته.
وقد جاء في الأثر ما يفهم منه أن خلق الأرض وخلق الجبال مفترق. وكأن خلق الأرض كان قبلا، يمثل مرحلة أولى في عملية التكوين الجيولوجي، إذ كانت الأرض كتلة رجراجة لا قرار لها ، تميد يمينا وشمالا، وترتفع وتنخفض، بفعل المادة اللزجة المتحركة التي هي في طور التشكّل أو في نهايته. ثم جاءت الجبال في مرحلة تالية لتقف أوتادا ومراسي تثبت المادة التحركة.. أخرج "الترميذي" في أواخر جامعه( ج1.ص:214 ) عن أنس بن مالك ، عن النبي  قال : ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فعاد بها عليها فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدّ الجبال).فإذا كان الهدم عكس البناء، كان زوال الجبال - على الصورة التي وصفها الله  - آذان بزوال الأرض ونهايتها. وقد نعجب إذا وجدنا أن رزق الأرض موقوف، موقوت في الجبال، مطمور فيها يسلكه الله  في الأرض بقدر، حتى ينال أهل الأرض حظهم من القوت تباعا. قال تعالى:  قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا، ذلك ربّ العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ( فصلت 10.9.).
يذهب " الشيخ الشعراوي" إلى أن الأقوات : » التي يحتاجها خلق الله إلى أن تقوم القيامة موجودة في الأرض، ولو أردنا الدقّة في فهم العبارة القرآنية، لوجدنا أن الأقوات مطمورة في الجبال. فكأن الجبال التي نراها صخورا منصوبة في الأرض هي مفاتيح أقوات البشر. وشاء الله أن تكون الجبال صلبة لأنها لو كانت رخوة وأمطرت السماء لحدث استطراق في الرخو كلّه، ولتبدد الخصب في بقعة على سطح الأرض. هذا الخصب الذي يستحلبه النبات لغذائه.. وقد تفسد الأرض لو زادت فيها هذه المواد.. أو على الأقل تجف منها الخصوبة في وقت قصير.. لذلك شاء الله أن تكون الجبال صخورا جامدة.. ثمّ ينزل منها بقدر. «( )
3- الإطار الفني:
لقد أدرك الشاعر العربي منذ العهود البائدة أنه لا يستطيع أن يبرح المكان، وأن المكان يحتويه في حياته ومماته. فهو جزء منه لا يختلف عنه في شيء، بل يحمل من سابقيه الذين رحلوا بقية يقف عليها في كل طلل يخاطبها و تخاطبه. وليس عجيبا أن يكون الطلل ممثلا لتجربة البراح والحنين والندم ( ) ومهما يكن من تفسير نسوقه للطلل وظاهرته الافتتاحية في الشعر الجاهلي ، فإنه يبقى مكـانا واقعـيا ( جغرافيا) تعرفه الذاكرة التاريخية في أخبارها وأيامها.. وقد انشعبت التفسيرات الوجودية والنفسية لتعليل ذلك"التشبّث" عند الشعراء، ولو كان في تداولهم له ما يشبه التقليد البعيد الذي يتناسخون فيه التجربة في مقابل تجاربهم الخاصـة. ( ) كما يزعم النقد الحديث. وإن أبدعـوا في مـواطـن وصفيـة أخـرى كالأنـواء والصحراء، والوحش، والرمال، وغيرها..
إن أروع تجربة ل"موضوعة الجبل" في الشعر العربي، نجدها عند شاعر الأندلس "ابن خفاجة" دون أن نجد عنده ذكرا للجبل بهذا الاسم. وإنما يحيد عنه إلى وصف مناسب هو "الأرعن" أي الجبل الطويل.. و يتجاوز الشاعر والوصف الحسي المادي ( بيتان) وكأن وصف "الأرعن" يكفي لبيان المراد الذي قصده الشاعر.. إلى الوصف المعنوي الذي تنفذ إليه التجربة الوجدانية بعمق، حتى ينقلب الوصف المادي إلى تشخيص يمكّن الشاعر من المحاورة، والبحث عن سر البقاء و التحول.
أ-الشيخ الوقور:
وهي صورة أثيرة عند العربي، يجد فيها الوقار والحكمة وبعد النظر، وكأنه ناسك يتأمل الفلاة، يفكر في عواقب الدنيا.
وقور على ظهر الفــــلاة كأنه
طوال الليالي مفكر في العواقب.( ).
وتستمر الصورة الحسية لتعزز المعطى المعنوي (الشيخ) حين يصبح الغمام عمامة يعتمّ بها الشيخ الوقور، وحين تكتمل هيئة الوقار والعلم، لم يعد أمام المتعلم إلاّ الإصغاء والاستماع.
ب-الحديث العجيب:
وفيه تتزاحم ذكريات "الجبل" فهو ملجأ للقاتل الجاني، وموطن العابد الناسك، وهو منزل كلّ سار بالليل وسارب بالنهار، ومقيل كلّ راكب وراجل. وهو حاجز للريح ، وكاسر للموج.. كلّ هؤلاء يسحقهم الدهر تباعا.. إن ما به من خفق الدوح رجفة للأضلع، وما به من هديل الورق نواح وبكاء.. إنه – هنا- باق، ويتحول كلّ شيء إلى فناء.
هوامش:
- عبد الملك مرتاض. ألف ليلة وليلة. ديوان المطبوعات الجامعية. 1993. الجزائر.
- أنظر ألف ليلة وليلة. م.س. النص الملحق. ص:320.
- م.س.ص: 139
- إبراهيم بدران. وسلوى الخماش. العقلية العربية.ج1. الخرافة. دار الحقيقة. بيروت.1979.
- إبراهيم بدران. حول العقلية العربية. ص:287. في . الفلسفة في الوطن العربي، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول. الجامعة الأردنية. مركز دراسات الوحدة العربية. سبتمبر1985.بيروت.
- جبل 05 مرات. الجبال 33 مرة. الجبل 01 مرة.
- محمد متولي الشعراوي. في تربية الإنسان المسلم. ص:227.226. دار العودة. بيروت.1982.
- أنظر إيليا الحاوي. فن الوصف وتطوره في الشعر العربي. ص:21. دار الكتاب اللبناني. دار الكتاب المصري. ط2. 1980- م.س.ص:21.
- ابن خفاجة. الديوان. ص: 43.42. دار بيروت للطباعة والنشر.(د.ت).